Uncategorizedآراءأخبار وطنيةاخبار الولاياتمقالاتولنا كلمة

محكمة الحسابات: شركات أجنبية تستغل ثروات موريتانيا في غياب الرقابة

محكمة الحسابات: شركات أجنبية تستغل ثروات موريتانيا في غياب الرقابة

محكمة الحسابات: شركات أجنبية تستغل ثروات موريتانيا في غياب الرقابة

غياب الرقابة على الشركات الأجنبية

تضمّن تقرير محكمة الحسابات سلسلة ملاحظات تكشف ضعف الرقابة الرسمية على أنشطة بعض الشركات الأجنبية العاملة في مجال استغلال الموارد. أبرز هذه المآخذ يتعلق بعدم وجود إشراف كافٍ على أعمال تلك الشركات، مما سمح لها بالتصرف دون رقابة حكومية فعّالة. على سبيل المثال، أشار التقرير إلى شركة أجنبية استغلّت أحد المقالع أو المناجم بشكل واسع دون متابعة جدية من الجهات المعنية. وقد أدى ذلك إلى استخراج كميات ضخمة من المواد (يُقدّرها التقرير بحوالي 786 ألف وحدة) مما يشكل نسبة تُقارب 4.34% من الاحتياطي في موقع الاستغلال – وكل ذلك دون وجود رقابة تضمن احترام القوانين ودفع المستحقات للدولة. إن غياب الرقابة هذا يمثل خللًا خطيرًا في الشفافية والحكمة في إدارة الموارد، لأنه يترك المجال مفتوحًا أمام التجاوزات ويُضعف قدرة الدولة على حماية مصالحها.

تحليل هذه الملاحظة يظهر أنها انتهاك لمبدأ الشفافية وضعف في كفاءة الإنفاق العام؛ فحين تعمل شركات أجنبية دون رقابة كافية، يزداد خطر سوء استغلال الموارد الطبيعية أو تهريبها، كما قد تفوت الدولة عوائد مستحقة على الخزينة. من الجانب المالي، يشكّل ذلك ثغرة رقابية تسمح بضياع إيرادات (مثل الرسوم أو الضرائب أو الإتاوات) كان يفترض تحصيلها. كما أنه يطرح تساؤلات قانونية حول مدى التزام تلك الشركات بشروط العقود أو التراخيص الممنوحة لها، وما إذا كانت هناك مخالفات تعاقدية نتيجة غياب المتابعة. يخلص التقرير إلى أن غياب الرقابة هذا يعكس ضعفًا في المنظومة الرقابية للدولة فيما يخص الأنشطة الأجنبية، ويفتح المجال أمام ممارسات قد ترقى إلى مستوى الفساد أو الإثراء غير المشروع على حساب المصلحة العامة.

لمعالجة هذا الخلل، يوصي التقرير باتخاذ إجراءات حازمة لتعزيز الرقابة على الشركات الأجنبية. ويشمل ذلك إنشاء آليات متابعة دورية لنشاط تلك الشركات عبر مفتشين متخصصين، وفرض متطلبات إفصاح منتظمة حول كميات الإنتاج وحركة الأموال. كما يدعو إلى تعزيز التنسيق بين الجهات الحكومية (كالوزارة الوصية وهيئات الضرائب والجمارك) لضمان تتبّع كل ما يُستخرج من ثروات البلاد. وينبغي أيضًا مراجعة العقود والتراخيص الممنوحة للشركات الأجنبية للتأكد من اشتمالها على بنود صريحة تلزم الشركة بالتقيد بالمعايير البيئية ودفع المستحقات المالية في مواعيدها، مع فرض عقوبات صارمة (مثل الغرامات أو سحب الرخص) عند أي انتهاك. وأخيرًا، يشدد على ضرورة بناء قدرات الأجهزة الرقابية الوطنية فنيًا وبشريًا، لضمان وجود كوادر مؤهلة قادرة على رصد أي تجاوزات من قبل المستثمرين الأجانب في الوقت المناسب ووضع حد لها.

ضعف تحصيل الإتاوات والعوائد الحكومية

أبرز التقرير أيضًا مشكلة ضعف تحصيل الإتاوات والرسوم المستحقة للدولة من الأنشطة الاستخراجية. فقد تبيّن أن الدولة لا تستوفي كامل حقوقها المالية من بعض شركات التعدين والمحروقات، إما بسبب ثغرات في المنظومة القانونية أو قصور في إجراءات التحصيل والمتابعة. على سبيل المثال، أشار التقرير إلى أن بعض الرسوم والإتاوات المفروضة قانونًا على الشركات ظلت دون تحصيل فعلي كامل، نتيجة عدم إصدار النصوص التطبيقية اللازمة لتفعيل تلك الرسوم، أو بسبب ضعف التنسيق بين الجهات المسؤولة عن تقدير الإنتاج وجباية المستحقات. كما لوحظ غياب نظام محكم لتتبّع كميات الإنتاج بشكل دقيق وشفاف، مما يفتح الباب أمام عشوائية في التحصيل وضياع جزء من عائدات الدولة. هذه العشوائية أكدها التقرير في سياق إدارة صندوق عائدات المحروقات؛ حيث وُجدت مبالغ تُسحب دون وجود وثائق محاسبية كافية، وانعدام لمقارنة الحسابات بشكل منتظم، مما أدى إلى تحصيل غير منتظم للإيرادات. كل ذلك يعكس ضعفًا عامًا في آليات الرقابة المالية وجمع الإيرادات.

يمثل ضعف تحصيل الإتاوات خللًا واضحًا في كفاءة إدارة المال العام وفي سلامة الإجراءات المالية. فمن ناحية الشفافية، يؤدي هذا الخلل إلى عدم توفر صورة واضحة عن ما يستحق للدولة فعليًا وما يتم تحصيله فعليًا، مما قد يخفي وراءه مخالفات أو تهاونًا إداريًا وحتى شبهة الفساد (كأن تتواطأ جهات لتحصيل أقل من الواجب). ومن الناحية الاقتصادية، فإن أي مبالغ غير محصلة هي فقدان لإيرادات سيادية يمكن أن توجَّه للتنمية. كما أن وجود ثغرات قانونية (مثل تأخر إصدار اللوائح التنفيذية للقوانين المالية) يندرج ضمن الثغرات التنظيمية التي ينبغي سدها فورًا. يوضح التقرير أن المشكلة هنا مزدوجة: ثغرة رقابية لعدم وجود نظام تدقيق وتتبع فعال، وثغرة قانونية/إجرائية تتعلق بعدم تفعيل بعض النصوص التي تنظم تحصيل الإتاوات.

 للتغلب على هذا الضعف، يوصي التقرير بجملة إجراءات. أولًا، ضرورة استكمال وتأطير الإطار القانوني بالإسراع في إصدار كل اللوائح التنفيذية والنصوص التطبيقية المتعلقة بالرسوم والإتاوات، حتى لا تبقى أي ضريبة أو رسم بلا آلية تنفيذ واضحة. ثانيًا، تطوير نظام رقابة وتدقيق آلي يربط بين بيانات إنتاج الشركات وعمليات التحصيل المالي، بحيث يتم تلقائيًا احتساب المستحقات وتتبع دفعها، مما يقلل الاعتماد على التقديرات الجزافية ويمنع أي تلاعب. ثالثًا، تعزيز قدرات أقسام الخزينة والمحاسبة العامة على التدقيق الدوري في حسابات الشركات العاملة في المجال الاستخراجي، بما في ذلك إجراء مطابقات دورية للحسابات للتأكد من أن ما أُنتج يقابله ما دُفع من مستحقات. كما يُستحسن فرض عقوبات رادعة على أي شركة تتأخر في الدفع أو تحاول إخفاء جزء من الإنتاج (كالغرامات التأخيرية أو إيقاف العمليات). وأخيرًا، يقترح التقرير تعزيز الشفافية عبر نشر التقارير السنوية حول عائدات كل قطاع طبيعي وما دُفع لخزينة الدولة، تطبيقًا لمبادئ مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI)، بما يزيد من الرقابة المجتمعية ويضمن مساءلة الجهات المعنية عن أي تقصير.

استغلال غير مشروع للثروات المعدنية

كشف التقرير عن حالات استغلال غير مشروع للثروات المعدنية في البلاد، حيث تمت ممارسة أنشطة استخراج خارج الأطر القانونية أو بطرق تلتف على القوانين. ويشمل ذلك مثلاً قيام أفراد أو جهات باستخراج معادن أو مواد محجرية دون ترخيص رسمي أو بعد انتهاء التراخيص الممنوحة لهم. كما رصد التقرير حالات أُعتبرت فيها بعض المستخرَجات كأنها منتجات جانبية” (sous-produit) للتهرب من متطلبات الترخيص أو الإتاوات – أي يتم تصنيف المعدن المستخرج على أنه ناتج ثانوي لعملية أخرى بهدف الإفلات من دفع الرسوم أو الحصول على موافقات. مثل هذه الممارسات أدت إلى استنزاف كميات من الموارد المعدنية بشكل غير شرعي، وأحيانًا بمباركة ضمنية من بعض الجهات التي تقاعست عن فرض النظام. إضافة إلى ذلك، فإن الاستغلال غير المشروع غالبًا ما يتم دون مراعاة اشتراطات السلامة البيئية أو حقوق المجتمعات المحلية، مما يفاقم أثره السلبي. وقد شدد التقرير على أن هذه الحالات تمثل خروقات جسيمة للقانون وتفويتًا لحقوق الدولة والمجتمع، وتتطلب تحركًا عاجلًا.

هذا الخلل يمثل انعدامًا لسلامة الإجراءات القانونية في منح العقود ومراقبة الأنشطة التعدينية. فعندما يستخرج معدن ما بشكل غير مشروع، يكون هناك مخالفة صريحة للقوانين المنظمة – ما يعني وجود ثغرات في إنفاذ القانون أو تواطؤ من بعض المسؤولين. من زاوية الشفافية، فإن هذه الأنشطة تتم في الظل بعيدًا عن أعين المحاسبة، مما يغذي بيئة مواتية للفساد والمحسوبية. كذلك من الناحية المالية، كل طن يُستخرج بلا تصريح هو إيراد مهدور لمصلحة خاصة بدلاً من خزينة الدولة. ويرى التقرير أن جذور المشكلة تكمن في ضعف أنظمة الرقابة الميدانية وغياب التفتيش المنتظم على مواقع التعدين، بالإضافة إلى قصور الإجراءات القانونية المتبعة في ملاحقة المخالفين، حيث قد لا تُفرض عقوبات كافية تردع الآخرين.

توصيات: يوصي التقرير بسلسلة إجراءات صارمة للحد من الاستغلال غير المشروع للمعادن. أولها تعزيز الدور الرقابي الميداني عبر فرق تفتيش مفاجئة تجوب مواقع التعدين والمحاجر لرصد أي أنشطة مخالفة بشكل استباقي. كما يطالب بضرورة إعادة النظر في المنظومة العقابيةبحيث يتم تغليظ العقوبات على المستغلين غير الشرعيين – سواء كانوا شركات أو أفراد – لتشمل غرامات مالية كبيرة ومصادرة المنتجات وربما الملاحقة الجنائية في حالات التعدي المتعمد. أيضًا، ينبغي سد الثغرات القانونية التي تسمح بالتحايل (مثل تعريف أوضح لمفهوم “المنتج الجانبي” لمنع إساءة استخدامه كذريعة). ويقترح التقرير إنشاء قاعدة بيانات مركزية لكل التراخيص المعدنية الصادرة وكميات الإنتاج المصرح بها، مع ربطها بنظام تتبع ميداني، حتى يسهل اكتشاف أي تجاوز للكميات أو المناطق المصرح بها. بالإضافة إلى ذلك، توصي المحكمة بتفعيل الرقابة المجتمعية عبر إشراك السكان المحليين في الإبلاغ عن أي أنشطة تعدين مشبوهة في مناطقهم، وتوفير قنوات آمنة للإبلاغ عن المخالفات لحماية المبلّغين. مجمل هذه التوصيات يهدف إلى خلق بيئة يكون فيها الالتزام بالقانون هو القاعدة، وردع أي محاولة لاستغلال ثروات البلاد خارج إطار الشرعية.

العقود غير الواضحة وضعف شفافية الاتفاقيات

أشار التقرير إلى أن بعض العقود والاتفاقيات المبرمة في قطاع الموارد الطبيعية يشوبها عدم وضوح وضعف في الشفافية. فقد وُجد أن بعض عقود الامتياز أو الشراكة مع الشركات – سواء في مجالات التعدين أو النفط – تفتقر إلى تحديد دقيق للالتزامات المتبادلة أو المؤشرات الكمية المستهدفة، ما يفتح الباب أمام تفسيرات متباينة واستغلال الثغرات لصالح الطرف الأقوى (عادة الشركة الأجنبية أو المستثمر). على سبيل المثال، قد تخلو بعض العقود من بنود صريحة حول آليات الرقابة والتدقيق أو شروط مراجعة كميات الإنتاج بشكل مستقل، أو قد تتم الصياغة بطريقة معقدة تجعل تتبع تنفيذ العقد أمرًا عسيرًا على الجهات الرقابية. مثل هذه العقود غير الواضحة تقوّض مبدأ الشفافية وتضعف ثقة الجمهور بسلامة إدارة الموارد، إذ لا يستطيع حتى المدققون أحيانًا الجزم بمدى التزام الشركات ببنود مبهمة أو غامضة.

هذه الملاحظة تعكس خللًا في مرحلة التعاقد والتفاوض ينعكس سلبًا لاحقًا في مرحلة التنفيذ. فعندما تكون العقود غير محكمة الصياغة، يزداد احتمال ظهور مخالفات مالية وإدارية؛ فقد تستغل الشركات الثغرات لتقليل ما تدفعه أو تزيد ما تستخرجه دون مقابل إضافي. من زاوية الحوكمة، يعد ذلك ضعفًا في الإجراءات التعاقدية وفي قدرات التفاوض الحكومية، وربما ناتج عن غياب الخبرات المتخصصة أو الاستعجال في إبرام الاتفاقيات. كما أن عدم نشر تفاصيل بعض العقود بدعوى السرية أو غيرها يجعلها معزولة عن الرقابة الشعبية، مما يناقض مبادئ النزاهة. يشير التقرير ضمنيًا إلى أن هذا الوضع قد يؤدي إلى مخالفات قانونية إذا تبين أن بعض الشروط مجحفة أو غير قانونية أصلاً، أو إذا كانت هناك شبهة تضارب مصالح في توقيع عقود بهذه الصيغة.

 يوصي التقرير بجملة خطوات لضمان وضوح العقود وشفافية الاتفاقيات. في مقدمتها إخضاع العقود الكبرى لمراجعة قانونية وفنية دقيقة من قبل لجان مختصة قبل إقرارها، لضمان سد أي ثغرة أو غموض في النصوص. كذلك يشدد على أهمية إدراج بنود تفصيلية في العقود تحدد واجبات كل طرف بشكل قابل للقياس (مثلاً تحديد نسب الإتاوات بوضوح، طرق احتساب التكاليف القابلة للاسترداد، خطط الإنتاج القصوى، آليات المراقبة والتبليغ الدوري). كما يدعو إلى تعزيز الشفافية عبر نشر ملخصات لهذه العقود للعلن، بما لا يضر بالمصالح الاستراتيجية، وذلك لإخضاعها للرقابة المجتمعية وتمكين البرلمان من مناقشتها بموضوعية. ومن التوصيات أيضًا بناء قدرات فرق التفاوض الحكومية (قانونيين وخبراء فنيين) لضمان تحقيق أفضل شروط ممكنة للدولة وعدم ترك صيغ مفتوحة تحتمل التأويل. أخيرًا، يقترح التقرير وضع نماذج قياسية للعقودفي قطاعات التعدين والنفط، تكون بمثابة مرجعية تلتزم بها الجهات عند التوقيع مع أي مستثمر، مما يضمن توحيد المعايير وسد الباب أمام العقود الجزافية أو الغامضة.

في المجمل، يبرز تقرير محكمة الحسابات لعام 2022-2023 صورة مقلقة لمكامن خلل في النزاهة وفعالية إدارة الموارد العامة في موريتانيا. تمحورت أهم الملاحظات حول ضعف الرقابة وسوء استغلال الثروات وقصور الشفافية في العقود، وكلها عوامل تهدد بتحويل موارد البلاد إلى عبء تنموي بدل أن تكون نعمة. ولكن في المقابل، قدّم التقرير خارطة طريق إصلاحية عبر توصيات عملية لكل خلل تم رصده. إن تنفيذ هذه التوصيات – من تعزيز الرقابة والتشريعات وصولًا إلى رفع مستوى الشفافية والمساءلة – كفيل بسد الثغرات المكتشفة وتحسين حوكمة الموارد العامة. وبذلك يمكن للدولة أن تضمن أن ثرواتها تُدار بأقصى قدر من الكفاءة لمصلحة الأجيال الحالية والمستقبلية، بعيدًا عن شبهات الفساد وسوء الإدارة. إن إرادة الإصلاح والمساءلة التي عكسها هذا التقرير تمثل خطوة إيجابية، ويبقى التحدي في تحويلها إلى إجراءات ملموسة تعيد ثقة المواطن في مؤسسات الرقابة وترسخ أسس الحكم الرشيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى