موريتانيا: 6 عقود من سؤال السيادة
اليوم السابع الموريتاني في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1960 أعلنت الجمهورية الإسلامية الموريتانية استقلالها عن فرنسا، فانتقلت من فضاء البنى التقليدية والسلطات المحلية المتناثرة إلى رحاب الدولة الوطنية الحديثة. واليوم، بعد خمسةٍ وستين عاماً، لا نستحضر ذلك اليوم المختلف بوصفه مجرد ذكرى، بل لكونه لحظة تأسيسية تستحق التأمل وإعادة القراءة، لما حملته من دلالاتٍ سياسية وثقافية واجتماعية ما تزال آثارها ماثلة في حاضر البلاد.
الاستقلال، في جوهره، ليس حدثاً سياسياً فحسب، بل هو انتقال شعبٍ بأكمله من موقع المتلقّي إلى موقع الفاعل.
إنّه امتلاك زمام القرار العام، واستعادة الحق في رسم ملامح الحاضر والمستقبل، وتحرير الإرادة من الإكراه الخارجي.
وعلى هذا المعنى تأسّس الاحتفاء الموريتاني بتلك اللحظة التي رُفع فيها العلم الوطني للمرة الأولى في سماء البلاد، مُعلِناً ميلاد كيانٍ سياسي جامع، بعد قرونٍ طويلة ظلت فيها البنى الاجتماعية أقوى من أي إطارٍ سياسي مركزي.
حين غادر الفرنسيون البلاد، لم يتركوا وراءهم من الهياكل الإدارية والاقتصادية إلا قدراً ضئيلاً بالكاد يكفي لتشغيل دولة في أولى مراحلها. وتدلّ الوثائق التاريخية – مثل تقارير الإدارة الاستعمارية الفرنسية ما بين 1930 و1956 – على أن الوجود الفرنسي في موريتانيا كان محدود التغلغل مقارنة بالمستعمرات المجاورة.
فقد ظلت الإدارة متمركزة في نقاط محدودة: سان لويس (قبل 1905)، ثم المراكز الإقليمية في الداخل بعد إنشاء “الإقليم الموريتاني” سنة 1920، دون توسع فعلي في البنى التحتية أو المرافق الأساسية.
وكان المجتمع الموريتاني حينها شديد الخصوصية: بنية قبلية واسعة الامتداد، اقتصاد قائم على الترحال والرعي، وحياة علمية مزدهرة في المحاظر لا علاقة مباشرة لها بالبنية الإدارية الفرنسية.
وقد مثّلت المقاومة المسلحة إضافة إلى المقاومة الثقافية والدينية، حاجزاً حقيقياً أمام محاولات التغلغل العميق، وهو ما جعل الإدارة الفرنسية تكتفي بوجود إداري محدود، لا بمشروع استيطاني أو دمجي شامل.
وعندما حان يوم الاستقلال، وجدت الدولة الوليدة نفسها أمام فراغ مؤسسي واسع:
• لم يكن في البلاد سنة 1960 سوى طريقٍ معبّد واحد بين نواكشوط وروصو،
• ولم يتجاوز عدد المدارس الابتدائية بضع عشرات،
• وكانت نواكشوط نفسها – التي تقرر جعلها العاصمة سنة 1957 – مدينة ناشئة تتألف نواتها من أبنية إدارية قليلة وخيامٍ متناثرة.
تلك كانت صورة اللحظة الأولى للدولة.
وإذا كان الاستقلال السياسي قد تحقق برفع الراية الوطنية، فإنّ جوهر السيادة يظل مرتبطاً بقدرة الدولة على امتلاك قرارها الاقتصادي وبناء مؤسساتها الفاعلة.
وقد أدرك المؤسسون الأوائل – وفي طليعتهم الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله– هذه الحقيقة، حين أكد في خطابه الأول بعد الاستقلال أن بناء الدولة “عملٌ يتجاوز جيل الاستقلال، وأن موريتانيا تُولد في ظروفٍ أشدّ صعوبة مما وُلدت فيه دول كثيرة.”
وخلال مسيرتها على درب البناء، قطعت البلاد خطواتٍ معتبرة: توسّعت الإدارة، وتأسست البنية العسكرية والمدنية، وارتبطت المدن بالطرق والموانئ، وتم إنشاء جامعة، ومؤسسات سيادية، وهيئات قانونية ورقابية، إلا أن التحدي الأكبر – وهو بناء اقتصاد متماسك قادر على توليد الثروة واستيعاب الطاقات – ظل قائماً، إذ مكث الاقتصاد ردحاً طويلاً معتمداً على الموارد الأولية الخام: الحديد (منذ 1963)، الصيد البحري، ثم لاحقاً الذهب والنحاس والغاز.
إنّ الاستقلال الاقتصادي لا يتحقق بمجرد توفر الثروات، بل بقدرة الدولة على تحويلها إلى رافعة للتنمية، وإلى أساسٍ لبناء صناعةٍ وطنية وتعليمٍ متقدم ومؤسسات قوية.
وما تزال هذه المهمة في طور التشكل، تُنجز منها خطوات وتتعثر أخرى، لكنها تبقى جوهر معنى السيادة في القرن الحادي والعشرين.
تُجمع التجارب التاريخية، في المنطقة وخارجها، على أن الاستقلال لا يحدث دفعة واحدة، بل يتحقق عبر تراكمٍ طويل يبدأ يوم رحيل المستعمر ولا ينتهي إلا ببناء دولةٍ قوية، عادلة، ومؤسساتٍ راسخة. ومن هذا المنظور، تبدو ذكرى الاستقلال في موريتانيا مناسبةً لاستعادة زخم البدايات، واستحضار مسؤولية الأجيال اللاحقة عن إتمام ما بدأه الآباء المؤسسون.
بعد خمسةٍ وستين عاماً، يقف الموريتانيون أمام إرثٍ مزدوج: إرثُ أمةٍ استطاعت أن تنتزع لنفسها موطئ قدمٍ بين دول العصر، رغم هشاشة الظروف، وإرثُ دولةٍ لا تزال أمامها مهمة استكمال سيادتها الاقتصادية وترسيخ دعائم مؤسساتها.
إنّ الاستقلال، في النهاية، ليس يوماً من أيام الذاكرة الوطنية فحسب، بل هو مسارٌ متواصل تُكتب فصوله كلما تقدمت الدولة خطوة نحو ترسيخ كيانها وتحصين إرادتها.
زر الذهاب إلى الأعلى